اخر المواضيع

حول لقاء ناصر وفتاح على سطح عمارة يعقوبيان







(من وحي مقال الدكتور علاء الأسوانى : ماذا حدث للمشير السيسى؟) إذا كان هناك فضل لــ"الربيع العربي"، فهو أنه أكد حقيقتين قديمتين: الأولى أن العربي لا يمكن أن يكون ديموقراطيا، يستوي في ذلك المتعلم والأمي، بل إن المتعلمين الذين يعتبرون أنفسهم نخبة مثقفة هم أشد الناس كفرا بالمبادئ الديموقراطية، وأشرس أعدائها... والثانية، أن الكائن العربي (أخجل أن اسميه إنسانا أو مواطنا) يريد تغييرا فوريا وبالمجان، لا يريد ان يدفع ضريبة هذا التغيير، ولا يريد ان تجني الأجيال القادمة نتيجة صبره، بل يريد استفادة آنية على شكل منحة او صدقة ولو مغموسة بالذل.. خلال التاريخ القريب جدا.. صنعت "النخبة" العجل وزينت للعامة عبادته.. وانتهى هذا التوافق بكارثة خفف مؤرخو السلطة وكتبة البلاط وصفها إلى "نكسة" رغم أن العرب مازالوا يدفعون ثمنها إلى اليوم... الشعب "الطيب" اكتفى يومها بـ"الانتصارات" الإذاعية، والتمس العذر لمن تسبب في الهزيمة، بل خرج إلى الشارع يعرض العفو والغفران، وشيكا على بياض لمن قصم ظهر الأمة، وجنى على أجيال لم تجن على أحد.. والنخبة توزعت بين كافر بـ"الفكرة" القومية، وبين باحث عن "أسباب خارجية للنكسة"، وبين مروج لنظرية المؤامرة التي انخرط فيها عملاء الداخل مع أعداء الخارج.. مع أن الحقيقة واضحة.. باختصار: لا يمكن لشعب مقهور أن ينتصر.. وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَـالِ.. يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر.. ولأن التاريخ لا يتحرك إلا بالنسبة للأمم الحية، فقد نسي الناس النكسة وبناتها وحفيداتها وما تناسل منها.. وتوارى خطاب الحرب على أعداء "الأمة" لاسترداد كرامة مهدرة وأرض مغتصبة، ليحل محله تسويق "سلام الشجعان" الذي فرط حتى في القليل الباقي من أحلام "الناصر".. وانشغل الناس بحروب من نوع آخر.. حرب من أجل الخبز، وحرب من أجل الفول، وحرب من أجل مكان في وسيلة نقل عمومي أو مقعد في مدرسة او جامعة او سرير في مستشفى.. ومن رحم هذه المعاناة لم تولد ثورة ولا غضبة ولا انتفاضة ولا حتى زفرة حرى.. بل ولدت طبقة جديدة.. باشوات بلا طرابيش هذه المرة.. ألقاب لم تحتج إلى مراسيم ..بل رسمتها يد الواقع الذي يبدع دائما في تذكير الناسين بأن هناك دائما "ناس فوق وناس تحت" .. والفرق يقاس بالسنوات الضوئية.. حتى تحت سقف الاشتراكية العربية.. عجلة التاريخ تدور إذن، ولا تتوقف كثيرا عند المصطلحات والشعارات والخطابات.. انقلاب عسكري أواسط القرن الماضي تمت ترقيته إلى ثورة.. والفضل لكتبة البلاط ومؤرخي السلطة.. وسذاجة الشعب الطيب الذي يصدق كل ما يقوله راديو الحكومة.. وقبل سنوات، "ثورة" تم تخفيض رتبتها إلى "انقلاب".. صحيح أن هذه المصطلحات لها معان متناقضة بين ما هو مسطر في قواميس اللغة والسياسة والقانون.. لكن في النهاية، المحصلة واحدة.. التاريخ لم يتحرك .. وبلهجة أهل مصر "محلك سر".. بعد ستة عقود من القهر والديكتاتورية والفساد والظلم، سقط نظام (وليس أنظمة لأن النظام العربي مفرد بصيغة الجمع) لأنه أصبح مثل تفاحة فاسدة منخورة من الداخل، مصيرها السقوط الحتمي حتى لو لم تهتز الشجرة بفعل فاعل.. أو هبة ريح عابرة.. لكن "النخبة" مرة أخرى لمعت قشرة التفاحة، وأعادت عرضها للبيع، واشتغل كهنة المعبد من جديد.. وصدق الشعب "الطيب" أن العجل يمكن أن يصنع المعجزات تلقائيا بخواره.. دون حاجة لسحر السامري.. وكما صدق الأجداد والآباء مذيع النكسة "الحديدي" وهو يبشرهم بدك أسوار تل أبيب.. صدق الأبناء والأحفاد لميس "بنت أبوها"، وهي تنقل تباشير نكسة جديدة ملفوفو في ورق براق.. خلال رحلة قطار بين مدينتي فاس والرباط.. جلس قبالتي شاب إفريقي بدا غارقا وسط أكوام مجلات وجرائد فرنسية أو مفرنسة..بعدما تأكد من أن تقليب الأوراق لن يبعد عنه الشعور بالملل من طول الرحلة.. استدرجني بعبارات مجاملة عن المغرب و"طيبوبة" شعبه، وتنوعه وغنى تراثه.. فكان ذلك مدخلا إلى حوار استمر لأكثر من ساعتين أنقل منه ما يلي.. قال صديقي الإفريقي في استغراب : - "إن دول شمال إفريقيا مؤهلة تاريخيا وبشريا وجغرافيا لأن تكون أكثر استعدادا للتحول الديموقراطي، لكنه اكتشف من خلال زياراته المتكررة بحكم عمله، أن دول جنوب القارة تفوقت على دول الشمال في هذا المجال".. اكتفيت بتحريك رأسي.. معلنا موافقة من لا يريد الخوض في التفاصيل ولا البحث عن الأسباب والمسببات.. فواصل صديقي الإفريقي قائلا: - "اعتدت أنه كلما اقتضى الحال زيارة بلد من البلدان، إلا ودرست ما يمكنني دراسته عن تاريخه وثقافته وعادات شعبه.. بهدف تيسير التواصل مع مضيفي من أبنائه..".. - هذه فكرة جيدة، وهي من أدوات الديبلوماسيين الناجحين.. رد صديقي بابتسامة تدل على أنه اعتبر هذه الكلمات مجاملة قبل أن يضيف قائلا: - "نفعتني هذه الوسيلة كثيرا ما عدا عند زيارتي لمصر قبل سنوات".. - لماذا؟ - "لقد قرأت كل ما أمكنني الحصول عليه عبر شبكة الأنترنيت.. لم أتوقف طويلا عند التاريخ القديم، بل ركزت على العقود الأخيرة.. وتحصلت لدي صورة معينة.. لكنها كانت خاطئة..".. - كيف ذلك؟ - "لقد حاولت ان أكون موضوعيا في قراءتي للفترتين المهمتين في تاريخ مصر الحديث :فترة عبد الناصر وفترة السادات.. وأظن أن كل قارئ منصف لابد أن يشهد للأخير بالتميز والتفوق..لكني فوجئت بالعكس في مصر.. هناك تقديس لعبد الناصر واستخفاف بالسادات بل وسخرية لم أجد لها سببا".. قاطعته: - السبب بسيط، لقد اعتمدت في قراءاتك على ما نشر باللغتين الفرنسية والأنجليزية .. لو قرأت ما كتب بالعربية لما فوجئت.. فالتيار العام يرى أن السادات مجرد سطر ورد خطأ في كتاب التاريخ ولو أمكن محوه بالممحاة لما وجدت له أثرا.. - "التاريخ هو التاريخ، سواء كتب بالعربية أو بالعبرية.. يمكنني أن أرسم لك الآن جدولا يحدد إنجازات وإخفاقات كل منهما واحد خسر معركة ودمر جيشا وفرط في الأرض.. والآخر كسب حربا واستعاد ما ضاع.. واحد قتل من اليمنيين باسم القومية ما لم يقتله من الإسرائيليين، ودعم انقلاب ليبيا الذي جاء بالقذافي.. وكانت علاقته سيئة مع بورقيبة ومع حكام الخليج، وخلفت تجربة الوحدة مرارة في حلق كل سوري.. بل إن بصمته كانت واضحة في حرب الرمال بين المغرب والجزائر وفي صراع الفصائل الفلسطينية، وفي الفتن التي عرفها الأردن .. وعلى المستوى الداخلي .. قرأت أن اكثر من مليون إطار مصري فضلوا الهجرة بحثا عن آفاق جديدة وخوفا من بطش الآلة البوليسية.. وعن سجون وإعدامات واعتقالات..و..".. قاطعته ممازحا، قبل أن يسترسل في مقارنات تذكر بسجالات الناصريين مع الساداتيين : - أتنمى ألا تكون قد صرحت بهذا الرأي أمام مضيفيك المصريين.. - "لقد كنت في مهمة رسمية تلزمني بواجب التحفظ.. لكنها وجهة نظري.. وما زلت أتعجب من هذه المفارقة".. - عليك أن تقرأ تاريخ العرب بلغتهم وبمنطقهم إذا اردت أن تفهم.. العرب لا يحاسبون حكامهم على الإنجازات أو الإخفاقات، بل على النوايا.. وإذا حسنت النية فلا ضير إن لم يصدقها العمل.. - "منطق السياسة والتاريخ واحد في كل مكان..".. قاطعته.. - عليك أن تستثني من هذه القاعدة أمة العرب.. هناك "قاعدة" سياسية وتاريخية تقول "المصري يقدس حاكمه ولو كان فرعونا.. والعراقي يكره حاكمه ولو كان عمر بن عبد العزيز..".. منطقان متناقضان داخل شعب واحد.. بدا لي ان صديقي الإفريقي غير مقتنع، ولربما اعتقد أنني أسخر منه بهذا الكلام، فقلت موضحا: - لو سألت أي مواطن مصري لم تقدس عبد الناصر؟ سيقدم لك دزينة أسباب .. بنى السد العالي، فتح المدارس، الإصلاح الزراعي.. وما حدث من فشل للمشروع الناصري.. كان من تدبير أياد خارجية وبتواطؤ مع عملاء الداخل فضلا عن "ردة" السادات.. وابتداعه مذهبا سياسيا جديدا مناقضا لفلسفة "ثورة يوليو".. أما لو سألته : "لم تكره السادات" فستسمع كلمات الانفتاح، مافيا رجال الأعمال.. زواج المال بالسياسة..كامب ديفيد.. - "أنا آسف، لكن هذا كلام سخيف، لأنه بهذا المنطق علينا أن نقيم مآثم على عهد الإمبريالية.. فكل دول الاحتلال بنت مدارس في مستعمراتها وأنجزت سدودا .. فرنسا مثلا تكون إلى اليوم أطباء ومهندسي وأطر العديد من الدول وتقدم منحا وتبني جامعات ومعاهد.. وصدقني، لقد زرت مصر أكثر من مرة، وما شاهدته فيها من فقر وجهل وتخلف.. يؤكد حقيقة واحدة.. لو كان هناك مشروع سياسي واجتماعي حقيقي لانخرط فيه الشعب وتبناه وحماه.. هذه أيضا سنة من سنن علم الاجتماع.. والدليل أن دول إفريقيا اليوم تحاسب مصر باسم الديموقراطية وترفض أي انقلاب على السلطة المنتخبة..".. توقف القطار في محطة الرباط، وودعت صديقي الإفريقي وأنا أحمد الله أن الحوار وقف عند هذا الحد.. وأسفت لأن الرجل لا يتكلم اللغة العربية، وإلا لكان كفى نفسه وكفاني عناء إضاعة الوقت في موضوع لا قعر له.. وكم تمنيت - وصاحبي يدبج نظرياته في السياسة والتاريخ والاجتماع، لو أنه شاهد حلقة من حلقات توفيق عكاشة ومشتقاته.. أعترف انني لست بارعا في حبك الحوارات الدرامية، ولا أنا ناقد أدبي .. لكن اللقاء الذي جمع ناصر وفتاح على سطح أوراق صاحب عمارة يعقوبيان.. استفز شيئا ما في نفسي الأمارة بالسوء.. إنه خطر من نوع خاص.. أو على الأصح هي مرحلة متقدمة من الانحدار المتواصل نحو قعر لم نصله بعد..حين تشتغل "النخبة" بتحضير الأرواح.. لتقديم نصائح للأحياء.. فقد اجتمعت ثلة من أعلام مصر وقررت إرسال رسائل مع ناصر إلى تلميذه فتاح.. مؤداها "العناية العليا ترعاك"... وعلى طريقة الشيعة.. أنت المهدي المنتظر صاحب أسرار "الأئمة السابقين".. ناصر، الذي عاد إلى الأرض شابا يافعا.. اختار وقتا مبكرا للزيارة .. واستعدادا روحيا من تلميذه فتاح الذي "استحم وتوضأ" وخلع نعليه قبل أن يقف بين يدي روح المرشد الأعلى.. الذي اعتبر قانون التظاهر "خطأ فادحا".. وأن الاستقرار لن يتحقق إلا بالعدل.. وأن البطش بالثوار لا يجوز.. وأن إعلام المخبرين خطر.. وأن الدولة البوليسية وبال على الحاكم.. ليس هذا ناصر الذي عرفناه.. لكن ما علينا.. الحكمة ضالة "المؤمن" حتى لو وجدها في العالم الآخر فهو أحق بها.. ألا يقول قائل هناك :رب ارجعون لعلي أعمل صالحا في ما تركت؟ لم يقل ناصر شيئا عن القومية العربية ولا عن فلسطين أو إسرائيل.. ربما لأن الشق العسكري في الحوار لم ينقل إلينا.. أسرار دولة.. وربما حرصا على عنصر المفاجأة.. الذي قد تحمله الأيام القادمة لـ"إخواننا الفلسطينيين"، وليس لـ"أبناء عمنا" الإسرائليين .. فأنا وابن عمي على أخي.. وأنا والغريب على أخي أيضا.. نسي ناصر في غمرة الفرحة بلقاء وريث سره.. أن جدار برلين انهار.. وأن روسيا بوتين ليست الاتحاد السوفياتي وزمن الحرب الباردة.. وأن مصر العظيمة أصبحت تحت الانتداب الخليجي.. وأن دولا مجهرية ولدت بعد وفاة ناصر -أو رفعه لا أدري- أصبحت تحدد لـ"أم الدنيا" .."العيب فين والأصول فين".. وأن إسرائيل -وقبلها أمريكا- لا تخفي سعادتها بانتخاب وريث السر الناصري على رأس مهد العروبة .. دوة الحكماء والزعماء التي انعقدت في كان ما في السماء.. وكلفت ناصر بحمل رسالة الرضى عن "خارطة الطريق"، تذكرنا بنظريات لم تعد تدرس حتى في مادة التاريخ السياسي لنظم الحكم عن : العناية الإلهية والاصطفاء الإلهي وعن الحاكم الإله أو ظل الله في الأرض.. ناصر كما عرفناه في كتب التاريخ، تواضع ولم يذكر تلميذه بإنجازاته التي أوصلت مصر إلى ما هي عليه الآن.. والتي تعتبر عمارة يعقوبيان التي احتضن مكان ما من "سطوحها" هذا اللقاء الفريد ...نموذجا مصغرا لها.. أشياء كثيرة أخرى ربما حذفتها الرقابة العسكرية من الحوار "الاسواني" لدواع أمنية.. منها على سبيل المثال.. أن ناصر ربما حمل معه قليلا من زيت قنديل أم هاشم .. ففي مصر هذه الأيام كثير من الكرامات والمعجزاب الباهرات المبهرات.. المضحكات المبكيات..زيت من قنديل "أم المصائب".. قد ينجح وحده في علاج حالة الرمد الجماعي التي تعاني منها "النخبة" المصرية.. وهذه ليست وصفة من وصفات الشيخ درديري أو سيدي العتريس.. بقدر ما هي وصفة "المتنورين" العائدين من بلاد العلم والديموقراطية.. الفقرة الأخيرة تحتاج طبعا إلى إتقان بعض التقنيات البلاغية لقراءة ما بين السطور وما خلف الكلمات.. واللهم احفظ مصر من متعلميها قبل أمييها.. ٭ كاتب من المغربhttp://ift.tt/1ohXyjy


0 التعليقات: