اخر المواضيع

صكوك الغفران







هل أصبح أفق التمايز الإيديولوجي في المغرب يلوح بالانتقال من الثنائية الضدية: «وطني/لاوطني»، «ديمقراطي/لاديمقراطي»، «تقدمي/رجعي»... إلى «إسلامي/صوفي»؟ ثمة مؤشرات عديدة على ذلك، يمكن إجمالها في ثلاثة: أولا، انحسار وغربة الخطابات الإيديولوجية، اليسارية أساسا؛ ثانيا، التأكيد المحموم للدولة والأحزاب على صوفية الإسلام المغربي؛ ثالثا، تبادل الأدوار ما بين المريدين والسياسيين، حيث إن نزول الزوايا إلى الشارع، في غيرما مناسبة سياسية، تقابله الهجرة المطردة لأسماء وازنة من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري، عدا الإسلامي، نحو الزوايا الصوفية. قامات سياسية من اليمين واليسار غيرت قبعة المناضل بسبحة المريد، ومدافعون أشاوس عن العقلانية والمنطق استعاضوا عن الفكر بالذكر. وشيخ زاوية شهير، هو حمزة القادري البوتشيشي، يرد على انتساب محمد اليازغي وفتح الله ولعلو إلى طريقته بالقول: «إن الاتحاديين لو أدمجوا في مخططاتهم أفكار الأنوار الربانية، لكان حزبهم قد ارتقى أعلى درجات». هل يتعلق الأمر، إذن، بحالات فردية تنشد خلاصا ذاتيا، بعد سيرة «ذنوبية» ومسار تيه وفراغ روحي؟ ربما، فتاريخيا عرف المغرب حالات سياسيين خلعوا الحرير وارتدوا جبة الفقير؛ وقد حكى لي شاهد ثقة، قبل يومين، نقلا عن أحد حفدة السلطان مولاي عبد الحفيظ، كيف أن الرجل بعدما زالت دولته وضعفت حيلته واقتربت آخرته، أصبح متصوفا على الطريقة التيجانية، فكتب أرجوزة، غير منشورة، من ألف بيت شعري يمدح فيها الطريقة وشيخها. كما أن وزير الأوقاف الأسبق، الشيخ المكي الناصري، الذي بدأ مساره العلمي والسياسي بذم التصوف وأهله، في مؤلفه «إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة من مناهضة الطرقية إلى مقاومة الاحتلال»، والذي كتبه سنة 1924 وهو لا يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، انتهى به الأمر صوفيا طرقيا. الآن، نحن أمام شيء آخر.. هناك استراتيجية «روحية»، محلية ودولية، لمحاصرة الإسلام السياسي، انطلقت منذ 2002 بتعيين الصوفي أحمد التوفيق على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتوسعت في 2003 مع شروع مؤسسة «راند»، الموالية للقوات الجوية الأمريكية، في إصدار تقارير سنوية عن «كيفية التعامل مع المسلمين»، انتهت إلى ضرورة «بناء شبكات مسلمة معتدلة» (Building Moderate Muslim Networks)؛ ففي دراسة أصدرتها عن «الإسلام الراديكالي في شرق إفريقيا» أوصت (RAND) السلطات الأمريكية بالعمل على «تشجيع ودعم الجماعات الصوفية ومساعدتها على الترويج لرؤيتها وتفاسيرها المعتدلة للإسلام». لكن، ما الذي يجعل قيادات فاعلة ومؤثرة، مجاليا وسياسيا، ترتاد هذه «التقليعة الروحية» المخطط لها بقصدية؟ هل هو اكتشاف متأخر منها لهذا «الكنز الروحي» المسمى الإسلام الصوفي أم هو انخراط واع في مخطط سياسي، ذي لبوس روحية، لقطع الطريق على الغريم الإيديولوجي والميداني المتمثل في المشروع الإسلامي وممثليه السياسيين؟ ثم، لماذا فرطت هذه القيادات الحزبية في مشاريعها المتميزة في قراءة واستثمار المكون الديني، من قبيل: أطروحة «الإسلام الشعبي» و«لاهوت التحرير الإسلامي» و«الحزب الإسلامي الديمقراطي»، على قياس الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوربا، وغيرها من الأطاريح التي تأسست على جمع العقل بالنقل بالمصلحة؟ أن يقول شخص، مثل فتح الله ولعلو، إنه يحمد الله على أنّه لم يمت قبل أن يكتشف ميوله إلى الزاوية البوتشيشية، يجعل من حق المغاربة أن يسائلوه، ويطالبوه بأن يكشف لهم عن عناصر قوة وقيمة اختياره الجديد، خصوصا وأنه أسس وكرّس شخصيته العمومية، عندما كان رئيسا للفريق الاشتراكي بالبرلمان، على خطاب نقدي تواصلي شفاف. شخصان مثل فتح الله ولعلو ومحمد اليازغي ليس من حقهما أن يبحثا عن خلاص فردي، بعدما أسسا شخصيتيهما العموميتين على خطاب جمعي. أول شيء يجب أن يقوم به الفاعل السياسي، الديمقراطي، الذي اختار طريقا روحيا محايثا لطريقه السياسي، أو بديلا عنه، هو تقديم إجابات شافية عن أسباب فشل أو إفشال المشروع الحداثي العقلاني، الذي طالما بشر به وعبأ له؛ فليس معقولا أن نرحل من الفكر إلى الذِكر، ومن السؤال إلى الخضوع، ومن النسبي إلى المطلق.. دون أن نقول شيئا عن الرحلة. ثاني شيء يجب على هذا الفاعل السياسي، الديمقراطي، القيام به هو تحييد الزاوية التي انتمى إليها من الاستعمال السياسي، وتحصينها من مريدين فاسدين يستعملونها كمكنسة لنفض ما علق بهم من آثام وجرائم تسيير الشأن العام، حتى لا تتحول الزوايا الصوفية إلى كنائس إقطاعية جديدة تبيع صكوك الغفران للفاسدين.


0 التعليقات: