أكاديمي تونسي: ملك المغرب بسيط .. الإنسان فيه يغلب السلطان
الأربعاء 11 يونيو 2014 - 23:00
انتقل الإعجاب بما قام به الملك محمد السادس في تونس من مخالطة للناس بكافة شرائحهم وأعمارهم، بدون تكلف ولا تصنع، من مرتادي الانترنت والإعلاميين إلى الباحثين وعلماء الاجتماع أيضا، لعل من بينهم الدكتور محمد الجويلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس، ومؤلف كتاب "بنفسج الديكتاتورية". وقال جويلي، في مقال نشره اليوم في بوابة الوسط الليبية، إن الملك محمد السادس باختلاطه بالناس في تونس "لم يكن قصده تحقيق مكسب سياسي، وتلميع صورته، والقيام بـ"ضربة معلّم"، لأنه ليس في حاجة إلى ذلك ولا أحد ينافسه في الحكم في المغرب، وإنّما تصرّف بطبيعته الميّالة إلى البساطة التي يتغلّب فيها الإنسان على السلطان". وتعيد هسبريس نشر مقال الجويلي تعميما للفائدة: كنت أسررت منذ سنوات لصديقي المغربي د. حسن المصدق، الباحث في مركز دراسات الشرق المعاصر بجامعة السوربون في باريس، بأنّني أكنّ احترامًا خاصًا لملك المغرب وتوسَّمت فيه الخير في اللّحظة ذاتها التي كان يواري فيها والدَه التراب ويخلفه في الآن نفسه على عرش السلطة. كان المشهد مهيبًا وحزينًا وفي أرقى درجات العمق الإنساني عندما استسلمت عينا الملك الجديد وهو يرى والده يُمدّد في مثواه الأخير لسلطة العاطفة والوجدان لتذرفا أمام عدسات التلفزيون دمعًا حارًا سرعان ما تسرّب من مقلتيه وانسكب على وجنتيه. ارتبك المصوّر وارتعشت يداه وفزع الحاضرون ونهره بعضهم في أمر واضح تناهى إلى مسامعي وأعتقد إلى مسامع كلِّ المشاهدين بأن يحوّل الكاميرا إلى وجهة أخرى. خشي المقرّبون من الملك، على ما يبدو، على هيبته ولم يرغبوا في أن يظهر بذلك المظهر أمام شعبه والعالم في ردّ فعل آليّ لم يلتقط للتوّ جمال الصورة في صدقها وذهب ظنّهم على عجل إلى ظاهر المعنى، لا إلى باطنه، ولم ينتبهوا، بسبب الصورة النمطيّة التي رسخت في لاوعيهم ولاوعينا جميعا عن السلاطين و الملوك، إلى أنّ ملكهم الجديد قد كشف، على عكس ما يتبادر إلى الذهن، في غفلته وفزعه عن عمقه الإنساني، وتبعا لذلك، عن قوّته و صلابة نفسه التي تغلّب فيها إحساس الإنسان على بهرج السلطان. لم تكن مسألة الهيبة تعني للملك الجديد شيئا. ما كان يشغل باله في تلك اللّحظة. وما كان في الحقيقة يشغله شيء آخر عدا فراق والده إلى الأبد – هو الوجع الوجودي برؤية والده ينتقل من إقامة عابرة في القصر إلى إقامة دائمة في القبر دون الأمل في رؤيته مرّة أخرى. كان الألم يعصره لفراق أحبّ الناس إلى قلبه ولم يكن يشعر بالسعادة التي تغمر كلّ متيّم بالسلطة ولاهث وراءها. كان هذا ملخّص ما قلته لصديقي الدكتور المغربي المتخصّص في تاريخ الأفكار السياسيّة مهنّئا له على انتمائه إلى بلد يحكمه ملك من هذا النوع النادر من الملوك، في التاريخ الإنساني برمّته، فما بالك بالعربي. ومن الطبيعي أن يستحسن حسن ما قلته و يعبّر لي عن فخره واعتزازه بذلك، وقد استحضرت للتو خبرا ساقه ابن خلدون في كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايّام العرب و العجم و البربر ..." عن أحد سلاطين المغرب الأوسط كان يخشى على نفسه من ابنه المتعطّش للسلطة الذي بدأ يحيك له الدسائس ويعدّ العدّة للقضاء عليه. عزَّ عليه أن يقتل فلذة كبده ويجهز عليه بنفسه، ولكن كان لا بدّ من التخلّص منه حفاظا على أمنه و أمن رعيّته، فجهز له جيشا وأرسله لخوض معركة في برقة في شرق المغرب الكبير عُرف أهلها بشدّة مراسهم وقوةّ بأسهم وغلبتهم للغزاة مهما قوت شوكتهم عسى أن يلقى حتفه على يديهم. غير أنّ الابن استطاع أن يقيم تحالفات هنالك مع بعض القبائل ويخوض بدعمها معارك انتصر فيها قبل أن يعود إلى والده و بلده أكثر تعطّشا للحكم وتصميما على انتزاعه من والده بقوّة السيف. وفي يوم من الأيّام اصطحبه مع بعض حاشيته في رحلة صيد إلى منطقة جبليّة على ضفاف البحر المتوسط وفي غفلة منه، يقول ابن خلدون " قذف به من فوق شاهق هو وحصانه " في عمق البحر، ويقصد ابن خلدون بالشاهق الجبل المرتفع مكتفيا بصفته دون ذكره.
شتّان، إذن، بين إبن يقذف بوالده من فوق شاهق ليرث ملكه، وبين إبن صار ملكا يشهق بكاء على فراق والده. وفي الحقيقة من لم يجد والداه فيه خيرا لا شكّ أنّ شعبه وأمّته لن تجده فيه. هذا ما أردت أن أكتبه منذ سنوات، ولكن تردّدت في ذلك، ليس مخافة أن أُصنّف من فئة مدّاحي السلاطين و الملوك في حضارة للمديح فيها تقليد عريق وركيك، حتّى ولو كان على لسان أبي فراس والمتنبّي، فما كنت في يوم من الأيّام آكلا على موائد السلاطين ولا مرتزقا من خيراتهم، بل بالعكس فقد حذّرت في كتبي الأكاديميّة حول الزعامة السياسيّة في المخيال العربي الإسلامي التي صدرت منذ عشرين عاما من مغبّة عبادة الشخصيّة والتغنّي بالحكّام، وإنّما، بكلّ بساطة، لأنّ الحافز القويّ لم يتوفّر لذلك. لقد توفّر هذا الحافز لمّا دُعيت منذ سنتين لمدينة فاس المغربيّة من مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة الذي يديره د. عبد الحق العزّوزي للمساهمة بمحاضرة حول التربية وإنتاج المعرفة. لقد عبّر لي شباب مغاربة التقيتهم هنالك لمّا علموا أنّني تونسي عن إعجابهم بالثورة التونسيّة منتقدين الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة في بلدهم ودار بيني وبينهم نقاش طويل حذّرتهم فيه من مغبّة الانسياق وراء التجييش الإعلامي باسم الثورات العربيّة وخطورة الانجراف من تسونامي التغيير العدميّ مؤكّدا على فضائل ملكهم وعلى أنّ الضامن الحقيقي لوحدة المغرب واستقراره هو النظام الملكي وأنّ كل تغيير هادئ ورصين ينبغي أن يتمّ تحت مظلّته، بما في ذلك الذهاب به إلى ملكيّة دستوريّة على الطريقة الانقليزيّة أو الإسبانيّة، التي لا يمكن أن تتمّ بين عشيّة وضحاها، وإنّما عبر عقود من التوعيّة وإرساء قاعدة نفسيّة وثقافيّة متينة لذلك غير متوفّرة الآن لأسباب موضوعيّة وتاريخيّة في العالم العربي برمّته. غير أنّ هذا الحافز لم يقوَ في أيّ وقت مضى كما قوي هذه الأيّام بمناسبة زيارة الملك محمّد السادس إلى بلدي تونس. فقد لفت انتباه التونسيين وأثار إعجابهم ببساطته وتواضعه وإعراضه عن البهرج وبنزوله للفسحة في شارع الحبيب بورقيبة الرئيس في تونس العاصمة، الذي طرد ابن عليّ من السلطة، بلباس بسيط كأيّ مواطن عاديّ يلتقط الصور مع المارة نساء ورجالا وأطفالا من عامة الناس، واحد يمسكه من يده والآخر يتأبّط ذراعه والسعادة تغمر وجهه وتبدو على محيّاه لتنتشر هذه الصور بعد ذلك على الفايسبوك وتكثر حولها التعليقات الإيجابيّة التي تعدّد خصال الملك وتشكره على دعمه للسياحة التونسيّة بنزوله إلى الشارع بتلك الطريقة دلالة على أنّ البلاد آمنة ويطيب فيها العيش . وفي الحقيقة فإنّ الملك محمد السادس، على الأرجح، لم يكن في نيّته إلّا النزول إلى الشارع والاختلاط بالناس بعيدا عن ضغط البروتوكول وتكلّفه ولم يكن قصده، كما ذهب البعض، تحقيق مكسب سياسي وتلميع صورته والقيام بـ"ضربة معلّم " كما قال أحد الصحافيين التونسيين، فهو ليس في حاجة إلى ذلك ولا أحد ينافسه في الحكم في المغرب ولا تنتظره انتخابات على الأبواب، وإنّما تصرّف بطبيعته الميّالة إلى البساطة التي يتغلّب فيها الإنسان على السلطان، كما قلنا. الرجل بكلّ بساطة تربّى، منذ نعومة أظفاره، في كنف السلطة وإكراهاتها ويتوق إلى حرّيته واجتماعيته، مدنيّته، بلغة ابن خلدون، في أن يعيش مع الآخرين من بني جنسه. فهو على خلاف الحكّام الجمهوريين والجماهيريين جدّا، الجوعى للسلطة والمتعطّشين لها، قد شبع وجاهة وسلطانا وتربّى وتعلّم ليصبح ملكا ولم تقذف به الصدفة أو الانقلابات إلى سدّة الحكم. هل الأنظمة الملكيّة في العالم العربي أفضل من الأنظمة المشتقّة من الجمهور، جمهوريّة كانت أم جماهيريّة؟ اسألوا الليبيين والعرب الذين يعرفون ليبيا في ستّينات القرن الماضي عن فترة الملك السنوسي واسألوني عنها عندما زرتها في أواخر السبعينات ومازالت آثار السنوسيّة بادية فيها قبل أن تعصف بها رياح الجمهورية الانقلابيّة وتدمّر الجماهيرية الغوغائيّة البائسة ما بنته السنوسيّة.هذا ما أحاول الإجابة عنه في ترحالي القادم في مدينة طرابلس ذات صيف من سنة 1978.
0 التعليقات: