عبد الله باها كما عرفته
الخميس 11 دجنبر 2014 - 12:40
لم يكن من السهل تصديق الرواية المنقولة عن ملابسات وفاة الراحل الأستاذ عبد الله باها، وستظل الأسئلة حول هذه الملابسات عالقة حتى يتبين للجميع الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الحقيقة لكي يطمئن الجميع. لكن رحيله خلّف بالتأكيد صدمة في أوساط الرأي العام والنخب السياسية، ليس فقط للطريقة الدراماتيكية التي رحل بها الفقيد، ولكن أيضا بسبب كون الأستاذ عبد الله باها كان مختلفا عن طينة باقي السياسيين. كانت سلوكات الراحل التي عبر عنها في حياته اليومية، سلوكات إنسان اتخذ من الزهد والتواضع طريقا لقلوب الناس على اختلاف مستوياتهم، وباختلاف المدارس السياسية التي ينتمون إليها . كان الأستاذ عبد الله بها نموذجا للسياسي الذي اتخذ من اللطف مذهبا له في التواصل مع الناس، كان رجلا لا يعرف الحقدُ طريقا إلى قلبه، فلا تكاد تجد له تصريحا يستهدف شخصا يختلف معه في الرأي أو ينتمي لمدرسة يختلف معها في الاجتهاد والرؤية، وهي خاصية نادرة في نخبتنا السياسية سواء داخل المغرب أو خارجه في أرجاء الوطن العربي المُبتلى بنخبه المأزومة، وقد بقي الراحل على هذا الطبع حتى بعد تقلده لمسؤوليته في الحكومة، نفس البشاشة ونفس اللّطف ونفس العفة في التعامل مع الناس والفرقاء السياسيين الذين لا يشاطرونه منهجه ورؤاه بما فيهم من كان يستهدفه بالتجريح والشتم، فكان اختلافه مع الناس اختلافا مترافقا مع أدب جم. وكأني به يتمثل قول عنترة بن شداد لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ التقيته مرة في أحد المؤتمرات المنظمة قبل سنتين في إيفران، وقد جاء ممثلا للحكومة لإلقاء كلمة هناك، وتبادلنا أطراف الحديث على مائدة الغذاء، وحدثني عن الصعوبات التي تعترض عمل الحكومة، وكنت أطرح عليه التفكير في مأزق الخيارات التي تجعل العمل الحكومي أكثر عرضة للفشل وأبعد عن التأثير في بنية الدولة العميقة، باعتبار هذه الخيارات مرتبطة بالرؤية الناظمة للعمل الحكومي وطريقة تشكيل الحكومة في أوج الربيع العربي ودور حركة 20 فبراير.. وغير ذلك مما هو معروف ومطروح في ساحة النقاش السياسي، فكان يرد علي دائما بأن التركة ثقيلة ولا يمكن لأي طرف مهما كانت قوته أن يتحمل ثقل الإصلاح بالمغرب لوحده، وأن تعاون الشرفاء من الذين يتصدون للعمل السياسي يبقى حاجة ضرورية لتحقيق هذا الهدف، كل ذلك بتعبيرات مصحوبة بلطافة وتقدير للرأي المُخالف بدون تشنج أو عصبية. كنت ألتقيه في أكثر من مناسبة وسياق، فكنت تجدُني أمام الشخص نفسه؛ كنتُ ألتقيه في معظم الفعاليات المنظمة دفاعا عن قضايا الأمة في العراق وفلسطين ولبنان؛ ندوات كانت أم وقفات أم مسيرات، يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويقف حيث ينتهي به الموقف، لا يسعى لتصدّر المشهد، المهم حضوره في الأنشطة، وحرصه على ذلك كان لافتا. لم تكن البشاشة وخفة الروح تفارقان الأستاذ عبد الله باها ولو للحظة. أذكر أن السفر جمعنا ذات مرة لحضور مؤتمر بالجزائر، وكان يحرص على سرقة لحظات للضحك مع الصديق أحمد المرزوقي طالبا منه أن يحكي له كيف استطاع التكيف مع أوضاع سجن تازممارت الرهيب تارة، فتلاحظ آثار المأساة بادية على وجهه، أو يطلب منه أن يحكي له بعضا من مخزون نكاته التي لا تنتهي، فكان الراحل عبد الله باها في أبهى حالاته وهو يتفاعل مع إحدى مستملحات المرزوقي الكثيرة. هي البشاشة نفسها ونحن جلوس معه ذات مساء في مقر الوزارة الأولى لمناقشة إحدى القضايا مع رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران الذي ألزمنا كالعادة بانتظار مجيئ السي عبد الله باها، الذي أضفى على أجواء اللقاء طابعا خاصا، ولم يشأ مفارقتنا إلا بعد أن أوصلنا إلى الباب الخارجي لرئاسة الحكومة، بعد أن لعب دوره المعهود في تلطيف أجواء النقاش عبر استحضار واقعة أو لفت الانتباه لحادثة تاريخية أو حتى استحضار طُرفة من طرائف علاقاته مع الصديق أحمد ويحمان . كنت في كل مرة ألتقيه أجده يحدثني عن ذكرى والدي الراحل ويخاطبني بلازمة "يا ابن السي العياشي" ويتحدث عنه بتقدير كبير بسبب العلاقة الخاصة التي كانت تربطه به ، كما يُحدثني عن حنينه لتلك المرحلة من السبعينات وبداية الثمانينات ، حيث كان يعتبر أن الصدق والإخلاص كان الطابع المميز لحركة مُعظم من باشر العمل في صفوف الحركة الإسلامية في تلك المرحلة. لقد كان رحمه الله لطيف المعشر، خفيف الظل، قليل الكلام، صادقا فيما يقوله، مُتمثلا لما يتكلم به، نقي القلب والسريرة، مترفّعا عن الصراع والتنافس حول المناصب بشهادة رفاقه في العمل السياسي والمدني. لذا كان ذكره عند الجميع مرفوقا بعبارات التقدير والشعور بالخسارة. لقد كان الراحل من طينة الرجال الذين تختلف معهم في الرأي والاجتهاد والانتماء الإيديولوجي، لكنه لا يُفقدك الحرص على احترامه وتقديره. للأستاذ عبد الله باها الرحمة والرضوان في الأعالي ولأهله وذويه ومحبيه أُسْرة وطلبة وحزبا وأصدقاء خالص العزاء.
0 التعليقات: