الإنسانية قبل التعليم
الأربعاء 09 يوليوز 2014 - 12:49
لا تعرفُ غ م لِم هي تلميذة فاشلة، هي فقط متأكدة من شيء واحد؛ أنّ الله حَبا كلَّ التلاميذ والمراهقين في عُمرها بالذكاء الذي يخوّل لهم النجاح في الدراسة إلا هي. رُسوبها عاماً في المستوى الابتدائي، وعامين مُتتاليين في السنة الأخيرة مِن المستوى الإعدادي زاد في تَرسيخ هذِه الفكرة لديها، وهي _على الأرجح_ لَم تكُن بحاجة إلا كلِّ هذه السنواتِ من الرسوب لتتيقّنَ أنها الأكثر "غباء" بين أقرانها، فقد تفضّل عددٌ كبير مِن المُدرّسين الذين تتلمذَتْ على أيديهم، في إقناعِها بذلك بوسائل مُختلفة، ابتداء من تمزيق الدفاتر، مرورا بالصفع، وانتهاء بشد الشعر.. عِلمُ الوالدين بما تعانيه ابنتهما في مقاعد الدراسة بالإضافة إلى نتائجها الدراسية المتدهورة أكدَّ لديهم أنَّ ابنتَهم لا تصلُح للتمَدرس، فقد ساهما _بوعي أو بعدم وعي منهما_ في تكريس هذه الفكرة لديها؛ فكرة أنها لن تتعلم أبداً مَهما حاولت ولَن تنجحَ في الدراسة حتى لو انتهى بها الأمر إلى أكلِ الكتب أكلا، لأنها ببساطة إنسانة "غبية"! مُشكلة غ م تكمن في كونها تُعاني مِن حالة عُسر القِراءة أو ما يُطلق عَليه الـ"ديلكسيا" (dyslexie). الأطفال الذين يعانون مِن هذه الحالة، يجدون صعوبة بالغة في تعلّم القراءة والكتابة بالإضافة إلى أعراض أخرى، حيث أنهم يقرؤون بعض الكلمات _خاصة التي تشتمل على حروف متشابهة_ بشكل مقلوب أو مُبعثر كأن يقرؤوا كلمة "تفاحة" على النحو التالي "فتاحة" أو تظهر لهم كلمة "Barbare" كأنّها "rabrabe ". وفيما يلي صورة توضيحية للكيفية التي يبصر بها المصابون بعسر القراءة النصوص المكتوبة: عُسر القراءة بحسب ما يصنّفه الأخصائيون لَيس مرضا، ولكنّه حالة تصيب بعض الأطفال وتخلُق عِندهم اضطراباً تعلميا دون أن تنالَ مِن مستويات ذكائهم التي تتراوح في الغالب بين العادي وفوق العادي. خصائيُّ (الوحيد في المدينة) الذي لجأت إليه غ م بِسبب مشاكل تُعانيها في النطق، أكدّ لوالِدها أنّها تعاني مِن الـ "ديسليكسيا"، إلا أنّه نظرا لتكاليف جلسات العلاج الباهظة، وقلّة وعي الوالد بما قد يسببه هذا الاضطراب لابنته مِن مشاكل في الدراسة، جعلَه يوقف العلاج، ورغم إخطارِه إدارة المؤسسة الخاصة التي تدرس فيها ابنَته بما أخبره الأخصائيّ، إلا أن المسؤولين والمدرسين لم يمتلكوا الوعي الكافي لتقدير ظروف غ م ومعاملتها كتلميذة لا مُهملة ولا "غبية" ولكن كمراهقة تعاني اضطرابا يمنعها مِن أن تواكب الدراسة بنفس مستوى زملائها ودرجة تركيزهم. غ م وبعدَ تعرُّضِها لسنوات مِن الإهانة، والضَرب، والشَتم، والرُّسوب أيضا في المدرسة الخصوصية التي تدرس بها.. وبعدَ أن أُحبطت مِن الداخل، وتحطَّمت ثقتُها في نفسها تماما، ها هي ذي تفشل للمرة الثانية في الحصول على الشهادة الإعدادية، بينما حصلَ مَن هُم في سنِّها على شهادة البكالوريا، لكن ماذا يساوي الرسوب في الدراسة بالمقارنة مع الآلام النفسية التي حصدتها لسنوات؟ وأسوءُ ما في الأمر أنّ والديها قد يئِسا مِن قُدرتها على مواصلة الدراسة، مما جعل والدها يقرّر فصلها من الدراسة بصفة نهائية، لتصبح ربة بيت صغيرة تساعد أمها في أشغال البيت وتربية إخوانها الذين هناك أمل أكبر في أن يكملوا دراستهم ويتفوَّقوا فيها. و غ م لم تعد قادرة على الاحتجاج أو الاعتراض على قرار الأب كما كانت تفعل من قبل، لأنها اليوم أصبحت مقتنعة بأن وجودها في المدرسة لن يجلب لها إلا المزيد من السخرية والإذلال.. أستطيع أن أتذكر الآن وجه غ م حينما كنت أُراجع مَعها بعضَ الدروس استعدادا للامتحانات القريبة.. طلبتُ منها يومَها أن تأتيني بالدفتر الذي تدوِّن فيه ما يُملى مِن دروس مادة الجغرافيا، فتلعثَمت واحمرّ لونُها، ألحّيتُ في طلبي؛ فماكان منها إلا أن اعترفت لي بأن أستاذة الاجتماعيات مزقت الدفتر تمزيقا، ومعه دفتري التاريخ والتربية الوطنية، وكان حُجتُّها في ذلك أنَّ خط غ م قبيح، وكتابتُها غَير مفهومة، فعلت مُربية الأجيال ذلك قبل عشرة أيام من الامتحان الموحد الجهوي، وهي تعلم أن تلميذتها لا تملك مصدرا آخرا للحصول على هذه الملخصات. أذكر أيضا أني طلبتُ من غ م الإجابة عن سؤال في مادة اللغة العربية مفاده أن تأتي بجمل انطلاقا من كلمات تم اقتراحها سلفا، كان تمرينا بسيطا جدا لكن غ م واجهت فيه صعوبة، ولما سألتها عن السبب، أجابتني مطأطأة بأنّها لا تملِك أفكارا لأنّها "غبية" ولأنّ "رأسها فارغ"! إنّنا لو أخذنا تلميذاً يملك قُدرة كاملة على القراءة والكتابة، وطفقنا نُقنعه لسنة واحدة فقط، بأنّه غبيّ مَع توبيخه باستعمال العُنف النفسيّ والجسدي؛ فإنه من البديهي جدا أن يصبح هذا الطفل غبيا بالفعل! فكيف إذن إذا كنا بإزاء التعامل مع طفلة تُعاني حالةً عصبية تحول بينها وبين القراءة والكتابة بشكل سليم؟ إنَّ تعليم الفتيات ومُحاربة الهدر المدرسي بالنسبة للذكور والإناث على السواء، لا يجب أن يقتصرا على الشعارات الفارغة والكلام المدبّج.. السموّ بالتعليم يحتاج إجراءات جادة، مِن بينها تكوين المُدرسين والمُدرسات وإشعارهم بمُختلَف حالات الاضطراب العصبية أو النفسية التي يصاب بها الصغار حتى يتمّ تلقّف هذه الحالات بمجرّد مُلاحظتها عند المُتمدرسين وبالتالي إعطاؤهم أولوية وعناية خاصة، تحول بينهم وبين الإحباط النفسي الذي يسببه العجز عن مواكبة الأقران. وجود الأخصائي النفسي مهم في المدرسة، ليسَ بالنسبة للتلاميذ وحسب ولكن أيضا بالنسبة لبعض المُدرّسين الذي يتطاولون بالضرب والشتائم على إنسانٍ في أَوج نموّه النفسي والعصبي، فيلقّنوننه الغباء ويقتلون فيه ملكة الإبداع والجمال.. لن تعود غ م إلى المدرسة، وستُحصى العام المقبل ضمن أولئك الذين تركوا الدراسة لسبب أو آخر، وسيقول المكلفون بهذا النوع من الإحصائيات بأن الهدر المدرسي عند الفتيات يحدث بسبب بعد المدرسة، أو بسبب إجبارهنّ على الزواج، ولن يكون العنف المدرسي ضمن هذه الأسباب، وكما لن تقوم الجمعيات النسائية بتبني حالة غ م، لن تقوم من أجلها مظاهرات وليست ضمن من وصفهن السيد رئيس الحكومة بالثريّا. وسنستمرّ نحن بالتساؤل عن سبب تدني مستوى التعليم لدينا، وعن مصيره في السنوات المقبلة.. مع العلم أننا كلُّنا (من مثقفين وعاملين في قطاع التعليم وأولياء أمور) في أمسِّ الحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة التعليمية كلّها، بحيث نضَع الجانب الإنسانيّ قبل الأخلاقي والتعليمي أيضا، لأنّ المدرس الذي يتعمد الإهانة من أجل التعليم أو التربية يحتاج هو نفسه إلى إعادة تأهيل، واسم وزارة "التربية" و"التعليم" الوطنية يبدو اسما ناقصا لا يفي التلميذ ولا المدرس حقه، والأجدر أن تسمى "وزارة الإنسانية والتربية والتعليم" هذا إن كنا نؤمن بأنَّ الإنسانية هي أم الأخلاق وأصلها.
0 التعليقات: